الجَرَّة المشروخة*: الخدمة والعلاقات الإنسانية

سؤال: أحيانًا ما تنشأ بعضُ المشاكل بين الروّاد الإداريين الذين يسعون سعيًا حثيثًا لتبليغ الحق والحقيقة للإنسانية والمحيطين بهم؛ كأن يقوم أحد الإداريين بتجريح المحيطين به وقمعهم ، فكيف نحافظ على التوازن في هذا الأمر؟

الجواب: من أعظم الفضائل الاهتمام بأمر الإنسانية، ووضع الخطط الجديدة التي تسهم في حل مشاكلها، غير أن أفضلية هذا الأمر تتوقّف على القيام به بصدقٍ وإخلاص، وإلا فإنْ ربطَ الإنسانُ الخدمات التي يقوم بها بالمصالح الدنيوية كالتعبير عن الذات وتبوّؤِ المقامات والمناصب فهذا يعني أنه ضيّع جميعَ المكاسب الأخروية التي يُرجى حصوله عليها وجعلَها هباءً منثورًا.. قد يجد الإنسانُ الذي يُسارع في الخيرات من أجل الإنسانية تقديرًا وثناءً من الآخرين، وقد يوضع اسمُه على بعض المؤسّسات، وتُعلَّق صُوَرُه في كلّ مكان، وتُنصب له التماثيل، ولكن لا فائدة تُرجى من ذلك إن لم يستهدف الإنسانُ الرضا الإلهي فيه؛ لأنه حَظيَ من الناسِ بإقبالٍ وتوجّهٍ وتقديرٍ يناسب تطلّعاته، وبالتالي ضيّع الثواب الأخروي على أعماله في الدنيا.

بعبارة أخرى لن يبقى له ثوابٌ عند ربه لأنه نال ثواب عمله من الناس، والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة بعبارات مشحونة بالوعيد والإنذار، فيقول: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾ (سُورَةُ الأَحْقَافِ: 46/20)، وفي الحديث الشريف يصوّر النبي صلى الله عليه وسلم الحالة المزرية التي يكون عليها الذين ربطوا أعمالهم بأمانيهم الدنيوية وليس رضا الله فيقول: “إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ[1].

إننا نأمل من هذه الدائرة الإيمانية التي تتشكل من المتطوعين الناذرين أنفسهم لخدمة الإنسانية ألّا يكون فيها -إن شاء الله- مَن هم على هذه الشاكلة ممن يركضون وراء مصالحهم الدنيوية فقط، ويحصرون أنفسهم في إطارها الضيّق.. وإنني على قناعة بأنه لا يوجد بين هؤلاء المتطوعين الذين نذروا أنفسهم لخدمة الإنسانية من يتحرك وفقًا لمصالحه الشخصية ومطامعه الدنيوية، إنهم بإذن الله تعالى مرشحون لنيل رضا الله تعالى بسبب الخدمات العظيمة التي قاموا بها، كما أن الأجيال القادمة ستظل تذكرهم بالخير بسبب ما قدموه للإنسانية رغم أنهم لم يتشوّفوا إلى ذلك، بل إنهم بحقِّ سرِّ القاعدةِ التي تقول: “السَّبَبُ كَالْفَاعِلِ” سيتشاركون في الثواب مع كلِّ من سار على دربهم أو اهتدى بهداهم.

الأخلاق القرآنية في العلاقات الإنسانية

ولكن كما جاء في السؤال قد تَصدُر عن البعض تصرفاتٌ سلبية منافية للأخلاق الإسلامية؛ رغم ما يقومون به من خدمات عظيمة للإنسانية، فمثلًا يأتي أحدهم ويضع عددًا من الخطط التي تسهم في خدمة الإنسانية، ويرشد الناس إلى الأهداف السامية، قد يكون بالفعل مخلصًا في عمله إلى أقصى درجة، ولكن إذا وقع الأمر على غير ما يتمنى ويتطلّع همّ بتوبيخ العاملين معه وكسرَ خاطرَهم، بل قد لا يعفو عن أدنى قصور أو خطإ أو إهمال يصدر عنهم، وعلى ذلك يغضب على الفور ويحتد عليهم ويكسر خاطرهم.

فلا شك أن مثل هذا الإنسان إلى جانب ما يحمله من صفات إيمانية مثل الخدمة والسعي في سبيل الله؛ يحمل كذلك صفات كفرية مثل ظلم الآخرين وكسر خواطرهم، أي يخلط العمل الصالح بآخر سيئٍ كما قال القرآن الكريم عن بعض الصحابة الذين لم يشاركوا في غزوة تبوك: ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ (سورة التَّوْبَةِ: 9/102).

ولهذا السبب يجب على الإداريين أن يتّسموا بحساسية بالغة في علاقاتهم الإنسانية بقدر نجاحهم في خدماتهم على الأقل، أي لا بدّ أن تتسع صدورهم لما يلاحظون من قصور وأخطاء، وأن يتعاملوا مع رفقائهم في نفس الدرب بأعلى درجات الشفقة واللين والمرحمة، وأن يلتمسوا طريق العفو قدر المستطاع، فكل هذا من مقتضيات التخلق بالأخلاق الإسلامية، أما أن يغضبوا لأشياء تافهة، ويجرحوا شعور المحيطين بهم، ويضخّمون عثراتهم البسيطة؛ فلا ريب أنهم سيضرّون بالخدمات التي قاموا بها بداية، لأن الواحد من هؤلاء -بفعله هذا- يكسر خاطر المحيطين به، ويُضعف قوتهم المعنوية، ويصيبهم بالإحباط، وربما يجعلهم يمتعضون؛ فيبتعدون عن الدائرة التي يتواجدون بها.

أجل، إن كل واحد من هؤلاء يحمل عددًا من الصفات الكفريّة، ومن الصعب على إنسانٍ يحمل هذا القدر من الصفات الكفرية في نفسه أن يحافظ على استقامته مدة طويلة، وكما يقول بديع الزمان سعيد النورسي: “احذر! انتبِه إلى موضع قدمك، وخَفْ من الهلاك، فلا تهلك في أَكلةٍ، أو كلـمة، أو طَرْفة، أو شارة، أو بقلة، أو قبلة… فتَهلِكَ معك لطائفُك العظيمة”[2]، ومن الممكن أن نضيف فنقول: “أو عنف أو حدة أو غضب”.

من هنا يقع على عاتق روّاد الخدمة إشعالُ حماس رفقاء دربهم، واستثارة آمالهم؛ حتى ينهضوا بأعباء الخدمة على أكمل وجه، كما يجب عليهم أن يكونوا عازمين على القيام بالخدمة دون الغضب على أحد أو توبيخه أو قمع عشقه وشوقه، وأن يرغموا أنفسهم على فعل ذلك بالمران والمثابرة.

والواقع أن تبني الإنسان لفلسفة الخدمة والتعايش معها يشكِّل جانبًا واحدًا من نواحي الجمال، أما الجانب الآخر فينطوي على السلوكيّات والتصرفات والعلاقات التي يقيمها الإنسان مع رفاق دربه أثناء الخدمة، فلو عكس الإنسانُ الجماليّات التي يبلّغها للآخرين بحق وجعل من حياته نموذجًا للآخرين؛ عندئذ يكون قد جمع في نفسه الجمالَين في وقت واحد، وإلا اختلّ طرف من طرفي الجمال عنده؛ مما يعني ضرورة خضوعه هو في الأساس لإعادة تأهيلٍ مجدّدًا.

من المذنب الحقيقي؟!

من ناحية أخرى علينا ألا ننسى أن مقتضى الإيمان أن يعتبر الإنسانُ الأخطاءَ والسلوكيات التي يلحظها لدى الآخرين ولا تعجبه انعكاسًا لذنوبه في الحقيقة، ومثل هذا الإنسان لن يُجهِدَ نفسَه أو يُتعبها في البحث عن عيوب الآخرين، فطالما وجدَ المذنبَ الحقيقيَّ سيلتفت بسهولة إلى البحث عن حل، ولو ظللنا نبحث عن المذنب الحقيقي في الخارج رغم أن قصورنا هو السبب في أن يُعاملنا الآخرون معاملةً سلبية؛ فلا يمكن مطلقًا أن نجد هذا المذنب الحقيقي.

ولهذا فمهما كانت نوعية المعاملة التي نلقاها من رفقاء دربنا فعلينا أن نرجع إلى أنفسنا ونقول: “ماذا فعلنا حتى نصاب بهذا”، وبعد ذلك نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى ونستغفره، ونحاسب أنفسنا؛ فلربما رمينا الحجر في المكان غير المناسب، أو سدّدنا السهم نحو الشخص الذي لا يستحق، فارتدّ علينا مرة أخرى، أو أننا تهكّمنا وسَخِرنا من شخص ظلمًا، فلقينا جزاء عملنا على يد غيرنا، أو ربما أسأنا الظن في شخص ما، ووجهنا له اللوم والتوبيخ بسبب عيب فيه، فابتلانا الله بالعيب الذي وبَّخْنا غيرَنا عليه.

وربما لم نستطع أن نحافظ على حُسنِ الظنِّ في ملاحظاتنا، وانغمسنا في تصورات خاطئة، فكان من نتيجة ذلك أن أُصِبنا ببعض الحوادث المؤلمة، بمعنى أن بعض المصائب التي يتعرّض لها الإنسان حتى الشوكة يشاكها هي نتيجة قصوره وأخطائه، ويمكن النظر بالرؤية نفسها إلى بعض المشاكل التي يثيرها أصدقاؤنا؛ فربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ (سورة الشُّورَى: 42/30)، وكأن هذه الآية تشير إلى أن هذا قانونٌ إلهي.

رصيدُ الأقدمية

الجانب الآخر من القضية أنَّ البعض ربما سبق لهم الالتحاق بقافلة الخدمة وتولوا بعض الوظائف الإدارية فيها؛ فإذا استخدم هؤلاء أقدميتهم تلك للتحكم في رفقائهم ولم يقدروهم كما ينبغي فقد أساؤوا استعمال مناصبهم؛ فالأقدمية رصيدٌ مهمّ، ويجب استغلال التوجه والإقبال الناشئ عن هذه الأقدمية في سبيل الخدمة ؛ فهذا يُسهّل إدارة الأشخاص وقيادتهم، وإذا كان الناس قد أعرضوا عنكم فإنكم بحاجة إلى حركتين اثنتين حتى تستطيعوا تكليفهم بالأعمال؛ الأولى: رَدّهم إليكم، وبعدها تأتي الثانية: وهي توجيهكم إياهم إلى الهدف المطلوب.. فإن توجه الجميع ونظروا إليكم كزهور دوار الشمس التي تنظر إلى الشمس دائمًا وصاروا يقدرونكم فما أسهل أن تستخدموهم وتوجهوهم؛ لذا ينبغي للرواد والقادة أن يكونوا قادرين على تحويل أقدميتهم إلى رصيد مهم، ويتمكنوا من الحفاظ عليه، ثم يستخدموه لصالح الخدمة.

والطريق إلى هذا إنما يتحقق من خلال التخلق بأخلاق القرآن، واعتماد الرفق والوداعة أساسًا في العلاقات الإنسانية، فإن نجحتم في هذا تمكنتم من توجيه كل الأنظار إليكم، ولكنكم إذا قسوتم على المحيطين بكم وأغلظتم لهم القول فإنكم تكسرون خواطرهم؛ فيُعرِضُون عنكم.. وكما أنهم قد يخسرون بعض الأشياء نتيجة لهذا، فإنكم ستحرمون من عشرات الأعضاء المهمين؛ لأن كل واحد ممن تعملون معهم يعتبر عضوًا من أعضاء جسدكم كما أشار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى[3]، ولما كانت أية حركة شرسة وطبع سيّئ يصدر منكم يعني إتلافكم أحد أعضاء جسدكم، فإن فعلكم ذلك يضيق عليكم نطاق الاستفادة والنفع، وبالتالي تُعانون حرمانًا خطيرًا.

ستر الذنوب

الستّار من أسماء الله تعالى، وينبغي لنا من باب التخلق بأخلاق الله جل جلاله ألا نكاشف الناس بعيوبهم، وألا نخبر الآخرين بها، بل وعلينا أن نسترها، حتى لا نقع نحن في إثمٍ عظيمٍ، ولا يتردّون هم في براثن اليأس؛ لأن إشهارَ الذنوب وفضحَ صاحبها على الملإ بما هو سرٌّ بينه وبين ربه أصلًا له سلبيتان؛ الأولى: أنّ المذنب سيتعزّز لديه شعورٌ بأنه هو فعلًا على هذه الدرجة من السوء وأنه لا يمكن له أن يتخلص من ذلك، والثانية: أن المجتمع سَيُسِيء الظن به دائمًا، وبهذا قد يصر على ممارسته الذنبَ يائسًا من النجاة أصلًا، ومن ثم فإن كان ارتكابُ الذنبِ والإثمِ سيّئًا أصلًا فإن إيقاع الناس في اليأس والقنوط بسبب ذنوبهم وعيوبهم أكبر إثمًا وأشدّ جرمًا.

لا ينبغي أن يُساءَ فهمُ كلامي هذا، ويُحملَ على الدعوة إلى عدم اتخاذ أي إجراء أو تدبير لأجل القضاء على الذنوب وإصلاح العيوب.. بل لا بد من إرشاد الناس، والسعي إلى الإحسان إليهم ودفعهم إلى الخير.. بيد أنه يجب ألا ننسى أن القيام بهذا له أسلوبٌ وطريقة إذا لم تُراعَ تعذَّرَ الحصول على النتيجة المرجوة منه، لذا فعلينا أن ندقق جيدًا فيما سنقول، وأن نحترم مشاعرَ مخاطبينا، وندرس تصرّفاتنا وسلوكياتنا بشكل جيد للغاية قبل الاعتراض على أي خطإ، وندرس كذلك ردود الفعل المحتملة ونضعها في حسباننا.

بل إن كنا نتوقع رد فعل من مخاطبنا على كلامنا لزم علينا البحث عن شخص آخر يحظى بالقبول والتقدير لدى المخاطب؛ فيحدثه هو في ذلك.. فهناك أشخاص قد يقابلون حتى أكثر كلامنا عقلانيةً ولينًا برد فعلٍ سلبي، سيما إن كان مخاطبنا شخصًا وقع بيننا وبينه بعض الاحتكاكات ومظاهر التوتر سابقًا؛ فسيصعب عليه أن يتقبل كلامَنا ويحسن الظن فيه، ولكن إن كان هناك أشخاص يحبّهم ويحترمهم فإنه يتقبل تنبيهاتهم وتحذيراتهم على أنها نوع من الاهتمام والعناية به، لذا فلنترك هؤلاء الأشخاص يصححون الأخطاء، ويقولون ما يجب؛ ذلك أن الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي أوصى بهذا في رسالة الإخلاص، بل وذكر ضرورة الرضا عن تصدي الآخرين للقيام بهذا، إن المهم هو أن يَعتَبِرَ المخاطبُ بما يُقال له، فيرجع عن خطئه، ولا أهمية لمن يكون قائل هذا الكلام.

مراعاة القدرات والكفاءات

لقد أوصى القرآن الكريم المؤمنين بالركض والتسابق في الأعمال الخيرية[4]، لكن ينبغي ألا ننسى أن كل إنسان يقوم بهذا وفقًا لقدراته واستعداده، وبالتالي ليس صحيحًا أن نتوقع نفس الجهد والسعي من الجميع.

والخدمةُ أيضًا سباقٌ في الخيرات، غير أن فيه حارات شتى؛ حيث سيواصل كل فرد هذا السباق في حارة منفصلة عن الآخر بحسب قوة رجليه وقوة نَفَسِه، وبالتالي ستتباين سرعات الجميع، فإن لم يضع القائمون على الأمر هذه الحقيقة في حسبانهم وحمّلوا الجميع نفس العبء وانتظروا الشيء نفسه منهم فهذا يعني أنهم مخطئون؛ لأنهم بهذا الموقف يحملون الناس ما لا يُطيقون حمله.

ومثل هذه المعاملة لا تتفق والأخلاقَ الإلهية؛ فليس هناك “تكليف بما لا يُطاق” في القوانين الإلهية ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/286)، والأمر نفسُه حدث من جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يكلف أبا ذرٍّ رضي الله عنه بما كلف به عليًّا رضي الله عنه، ولم يُحمل أبا هريرة بما حمّل به خالد بن الوليد، وهؤلاء كلّهم أشخاص كرام، بيد أن لكل واحد منهم مجالًا ينجح فيه، ويقدر عليه، فإن حمّلتم أحدًا شيئًا لا طاقة له به فقد دفعتموه إلى الفشل وكسرتم ظهره، وإن فَشَلَ أيّ فردٍ من فريقكم هو فشلٌ لكم أيضًا.

يجب على الرؤساء حين يستخدمون الناسَ في الأعمال أن يضعوا في حسبانهم حالةَ كلِّ فردٍ ووضعه الخاص، وعلى المرؤوسين كذلك ألا يتحمّلوا ما لا يُطيقون، واعتقادُ أيِّ إنسان أنه قادرٌ على التغلب على كل شيء وأنه أهل للقيام بكل شيءٍ خطأٌ صريح، وكما أنه لا يحق للرؤساء تحميل رفقائهم ما لا يستطيعون القيام به؛ لا يحق لمن دونهم أيضًا الدخول في أعمال لا طاقة لهم بها، وينبغي لمن في مثل هذا الموقف أن يعترف بعدم الاستطاعة، ذلك أن اعترافه منذ البداية بعجزه عن القيام بالأمر وطلبه أن يُكلّف بما يستطيع أفضلُ من أن يتحمله ثم يعجز عن إتمامه.

التحرك بحسب الموقع

إن الوفاء بحق الموقع والتصرف وفقًا لمتطلباته من الأمور التي يتم التأكيد والتركيز عليها باستمرار، وإنني لا أعتبر التذكير بهذا مرة أخرى تكرارًا زائدًا لا حاجة له؛ فهذا مكانه بالضبط، وكما ينبغي لأي رئيسٍ أو رائدٍ ألا يستغلّ أقدميّته وريادته كوسيلة للتحكّم فيمن دونه؛ يجب كذلك على من دونه ألا يقصروا في احترامه وتقديره.

ولمزيد من التوضيح نقول إن التواضع والتفاني علامة على العظمة، واستخدامُ المرء سبقَه غيرَه وتقدُّمَه الآخرين لإخضاعهم لأوامره علامةٌ على الغرور والكبر، والكبرُ علامةٌ على الوضاعة.. وقصارُ القامات يسعَون إلى التكبّر والتبختر حتى يبدو وكأنهم في مكانة أكبر مما هم عليها أصلًا، وهذا نابع عن مرض نفسي بعض الشيء، والأكثر من ذلك أن محاولة شخص إظهار نفسه عن طريق التحكم، واكتساب مستوى أعلى يَكشِفُ أن شخصيَّتَه غيرُ سليمة وجبلَّتَه غيرُ سوية، بل إن مجرد تفكير إنسان بضرورةِ أن يُقدِّره الآخرون ويُصغوا إليه -دون أن يظهر ذلك في تصرفاته وسلوكياته- غيرُ مستحسن ولا مقبول؛ إذ إن ذلك لا يمكن أن يتوافقَ مع تعاليم الإسلام الكريمة.

الحقيقة أنه لا يحق لأحدٍ على الإطلاق أن ينشد الاحترام والتقدير لذاته.. بل يجب قبول هذه الأمور كرهًا حتى وإن جاءته بلا طلب؛ لأن من يتشوف لمثل هذه الأمور يكون بفعله ذلك قد قلَّل من قيمة الخدمة، كما يكون قد استبدل الأشياء البشَريّة التافهة الحقيرة بالمكافأة الإلهية الكبرى، وبالرغم من أن الأنبياء العظام جاؤوا برسالة تبلّغ الناس الجنة وعملوا في سبيلها طيلة أعمارهم إلا أنهم لم يتشوفوا إلى أي شيء؛ ماديًّا كان أو معنويًا، وكان منهجُهم ﴿فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ﴾ (سورة يُونُسَ: 10/72).

من جانب آخر يقع على عاتق الصغار الاعترافُ بقدر الرواد والكبار الذين منحوهم الفرصة للخدمة، ومهّدوا لهم الطريق فكانوا خيرَ نموذجٍ لهم في إنجاز الخدمات، وعندما يحصل ذلك ينشأُ نوعٌ من التناغم الجميل بين طبقات المجتمع، ويتسنّى أداء الواجبات اللازمة بكل أريحيّة وسهولة.

وفي الختام أريد التطرق إلى أمر آخر؛ وهو أنه قد يكون لدينا جميعًا بعض أوجه القصور في المعايير المذكورة هنا، وربما لا نستطيع تمثيل هذه المبادئ بشكل تام في حياتنا، مما يجعلنا ننخرط في مجموعة من الانتقادات والتساؤلات، وعليه ينبغي ألا نرسم مجموعة من المشاهد التشاؤمية، كيما تتزعزع قوتنا المعنوية، وعلينا أن نحذرَ من استخدام عبارات مخيِّبة للآمال عند الحديث عن القصور والتقاعس الواقع، فلا ننسى أنه ربما يقع بعض مظاهر القصور بدرجة ما في أي وقت حتى في القضايا والخدمات المهمة للغاية، وما يجب علينا القيام به هنا أساسًا هو بعث الحماس تصدّيًا للمواقف المحبطة، والسعي من خلال التكاتف إلى إعادة إصلاح ما فسد وتحطم.

 

[1] صحيح مسلم، الإمارة، 152؛ سنن الترمذي، الزهد، 48.

[2] سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة السابعة عشرة، المذكِّرة الرابعة عشرة، ص 187.

[3] صحيح البخاري، الأدب، 27؛ صحيح مسلم، البر، 66.

[4] انظر: سورة البقرة: 2/148؛ سورة المائدة: 5/48.

***

ماذا تعني “الجَرَّة المشروخة”؟

إن الأستاذ المربّي “فتح الله كولن” شخصية جامعة، وأحاديثه مشحونة بمعان عميقة تخاطب طبقات مختلفة من الناس، ولا جرم أن مَن يستمع إلى مثله من العلماء يتعلم أمورًا كثيرة، وينال نصيبه حسب مستواه، غير أن أكثر الناس فهمًا هم أكثر الناس علمًا، فمن بلغ مرتبةً سامية في العلم يرى أن هناك كثيرًا من الحقائق الخفية بين الكلمات والجمل والفقرات، وأنه قد جمع في كلمة واحدة دروسًا عظيمةً لا يسعها إلا كتاب كامل. فمثلًا عندما يشرح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ…” (رواه الترمذي) يصف ما في الحديث بـ”الخشية ذات بُعد الالتجاء” فيسحر من يسمعه بهذه العبارة النفيسة التي تنطوي على معان عميقة وعظيمة تملأ الصفحات.

وها نحن نسمّي صفحتنا هذه بـ”الجرة المشروخة” اعترافًا بعجزنا في فهمه كما ينبغي، وتقصيرنا في تلقِّي ما يطرحه علينا من حقائق، وقصورنا في تسجيلها والاستفادة منها وإفادة الآخرين بها. أردنا بهذا العنوان الإشارةَ إلى أن هذه الصفحة ما هي إلا مرآة أصغر بكثير من أن تعكس عِلمَ أستاذنا الجليل وحياتَه الروحية والقلبية وزُهدَه وتقواه. وقد استوحينا هذه الفكرة من المنقبة التالية التي يذكرها مولانا جلال الدين الرومي:

في قديم الزمان نصب سلطان فسطاطه على نهر الفرات، فأحَبَّه الناس، نظرًا لأنه استطاع أن يستولي على القلوب لا على الأراضي فحسب. أجل، أحبّوه وتمنوا أن لو تعرف عليهم ذلك الإنسان الخيّر ونالوا حبه واستحسانه، ولذلك كانوا يَمثُلون في حضرته في بعض الأيام ويقدمون له الهدايا. وفي يوم قدّم فيه الأغنياء وذوو الأحوال الميسورة هداياهم الثمينة للسلطان بحث أحد الفقراء عن هدية تناسب السلطان، فلما لم يجد شيئًا قيِّمًا خطرت على باله تلك الجرة المشروخة التي تقبع في ناحية من بيته، فأخذها وملأها بماء بارد من ماء القرية، وسلك بها الطريق إلى السلطان، فقابله أحدهم وسأله عن صنيعه ووجهته، فلما أجابه الفقير قال له الآخر في سخرية: “ألا تعلم أن السلطان يقيم على منبع الماء، فضلًا عن أنه يملك ماء العين الذي تحمله جرّتُك”. فامتقع لون الفقير وابتلع ريقه وانعقدت الكلمات في حلقه، ثم قال: “لا ضير، السلطنة تليق بالسلطان، والفقر يليق بالفقير. فإن لم أكن أمتلك هدية قيّمة للسلطان يكفي أنني أحمل قلبًا مفعمًا بحبه ومشتاقًا لتقديم مائه إليه”.

وعلى ذلك عزمنا على تقديم هدية للسلطان بـ”جرتنا المشروخة” التي تحملها أيدينا؛ رغبة في أن تكون هديتُنا مشاركتَكم معنا هذه الجماليات التي أفاضها الله علينا. ونحن -القليل من إخوتكم- على اعتقاد بأن مشاركة الكثيرين لنا في ماء هذا المنهل العذب يعيننا على أداء شكر نعمة القرب من هذه العين المباركة.

كنا بداية نسجل ملاحظات صغيرةً حتى نستعين بها في تذكر أحاديثه، لكن كان يفوتنا الكثير، فشرعنا فيما بعد في تسجيلها بدقة على الحاسوب لنقل ما يذكره دون تغيير أو نقص، ثم نأخذ ما سجّلناه على الحاسوب ونقوم بعملية التبييض والتنقيح والتصحيح، ثم نتذاكر ما ينتج من نصوص فيما بيننا.

فبدأنا نقدّم لكم ماء الحياة الذي ملأنا به جرّتنا، في هذه الصفحة الإلكترونية المسماة “الجرة المشروخة” والتي تعدّ جزءًا من موقعنا الإلكتروني “Herkul”؛ وما فعلنا ذلك إلا أننا شعرنا بشيء من النكران للجميل عندما احتكرْنا عينَ أفق القلب والروح هذه.



Kaynak: http://www.herkul.org/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9/%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%8e%d8%b1%d9%91%d9%8e%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b4%d8%b1%d9%88%d8%ae%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d8%af%d9%85%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%a7/

Hiç yorum yok

Blogger tarafından desteklenmektedir.